
حين يتكلم التاريخ… القصر الكبير يستعيد حكاية المغرب من زمن المقاومة إلى زمن البناء
حين يتكلّم التاريخ… القصر الكبير يستعيد حكاية المغرب من زمن المقاومة إلى زمن البناء

في مساءٍ هادئ من نونبر ، بدا فضاء الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير بالقصر الكبير، كأنه يعود عقودا إلى الوراء، ليقيم جسرا بين حاضرٍ يطرح أسئلته، وماضٍ لم ينهِ بعد روايته
هناك، بتاريخ 20 نونبر 2025، التأم جمع من الباحثين والمقاومين والأساتذة والفاعلين الجمعويين في ندوة حملت عنوان “استقلال المغرب: من التحرير إلى البناء”، لقاء لم يكن مجرد حدث ثقافي، بل لحظة إنصات عميقة لما تبقّى من أثر تلك المعارك التي جعلت المغرب يقف على قدميه وهو يفتح باب الدولة الحديثة

افتتح الدكتور محمد الصمدي الندوة بكلمات بدت كأنها تُعيد ترتيب ذاكرة المكان، وتحدّث عن مسار طويل ربط المغاربة بعرشهم في مواجهة الاستعمار، وعن ضرورة ألا يبقى الاستقلال حدثا يُحتفل به فحسب، بل مرحلة تُقرأ ليفهم الجيل الجديد كيف تشكّلت ملامح وطنه
ثم جاءت مداخلة الأستاذة أمل الطريبق، التي أعادت رسم صورة المرأة المغربية خلال سنوات الشدة ،وتحدثت عن نساء لم تكتب أسماؤهن كثيرا، لكنهن مشتْن في طرق سرية، نقلن الرسائل، أخفين المقاومين، ووقفن في صفوف التعبئة عندما غاب الملك في المنفى. وبعد الاستقلال، لم يغادرن المشهد،بل عبرن إلى فضاءات العلم والعمل المدني، قبل أن يتسع حضورهن بشكل أعمق في العهد الجديد.

وتوقف الأستاذ محمد البوخاري عند المسار التاريخي للتحرير، مستحضرا بدايات المقاومة المسلحة منذ 1912، والتحولات التي قادت إلى بلورة العمل السياسي المنظم، إلى أن جاءت وثيقة 1934 ثم وثيقة الاستقلال سنة 1944. واعتبر أن نفي الملك محمد الخامس لم يكن نهاية الأمل، بل شرارة أعادت تشكيل روح جماعية جعلت المغاربة يستقبلون عودته سنة 1955 كبداية عهد جديد
وعاد الإعلامي حسن الحلو ليتأمل في دور الكلمة والصورة في صناعة الوعي. تحدّث عن الإعلام كحارس للذاكرة، وعن برامج وحملات أرّخت للمقاومة وقدّمتها للأجيال حتى لا يبقى تاريخ المغرب مجرد سرد جامد، بل قصة تُروى وتُقرأ وتتجدد
أما الأستاذة فاطمة بلعربي فقد ربطت بين الاستقلال وفكرة التعلم المستمر. بالنسبة لها، التعلم ليس نشاطاً مدرسياً فقط، بل وسيلة لفهم اللحظة التاريخية التي وُلدت منها الدولة، حتى يتحول الانتماء الوطني من شعورٍ غريزي إلى وعيٍ راسخ

وفي مداخلة مختلفة بنبرة فنية، تحدثت الفنانة الحروفية رجاء بن مصباح عن الأعمال التشكيلية التي وثّقت لحظات من مسار التحرير والبناء. اعتبرت أن اللوحات لم تكن مجرد تعبير جمالي، بل سجلاً بصرياً يحفظ ذاكرة أجيال ويضعها أمام مشاهد لم تعشها لكنها تشعر بعمقها
ثم قدم الأستاذ محمد علوي قراءة في معنى الاستقلال داخل الوعي الوطني، مؤكداً أن قيم الحرية والوحدة لم تكتمل لحظاتها إلا عبر محطات لاحقة، من أبرزها المسيرة الخضراء وما تلاها من مواقف دولية دعمت السيادة الترابية للمغرب
وختم الأستاذ الغالي اللنجري بتذكيرٍ هادئ بأن الاحتفال بالاستقلال ليس طقساً سنوياً، بل عودة إلى قيم التضحية والعمل المشترك، تلك القيم التي جعلت المغرب يعبر قرناً كاملاً محتفظاً بتوازنه

وفي نهاية اللقاء، ارتفعت سورة الفاتحة بصوت واحد، كتحية لرجال ونساء وضعوا حياتهم على كفّ المبدأ، وتركوا للوطن ذاكرة لا تنطفئ. غادر الحاضرون المكان بشعورٍ أن التاريخ لا يشيخ، ما دام هناك من يستمع إليه جيداً




